مساحة إبداع .. شمس العتمة

بقلمـ آلاء الرفاعي.

للعتمةِ نهار، وللنهارِ عتمة ! ترجلَ درجَ طموحِه على عجَله ليبشرَهم بوصولِه، فدفعته سعادته إلي منزله كعصفورِ يهرع لإطعام نغره. (صغيره)
كان شارعه مزدحماً بغير عاده وعلى غير شكله المعتاد .. الناس يشبعهم الشجن، ينظرون له بحزنٍ وشفقه ! تعجب من نظراتهم وظل يبحث عن عشيرته بينهم، فلم يجدهم.
سرعان ما زالت بسمته ثم اُبطئت خطواتُه وتتضاعف أدرنالين جسده، وبحث عن منزله فلم يجده، لم يجد غير أثار المنزل !
وقف أمامه كالأصم الأبكم، لم ينبس ببنت شفه .. فاقتربت منه الجموع ليربتوا علي كتفه ويلقون عليه جمل السلوان.

نُقل عُمَر إلي مصحة نفسية حتي يعود للحياة ! كان كالصنم ،لا مأكل ولا حراك، حتي الجفن لم يرمش. وظل قابعًا بهيئته كأنه معزولٌ عن العالم ..
– ازيك يا عمر؟ عارف أنك مش هترد لكن مش هيأس فيك وقبل ما تكون مريض بعالجك احنا بشر وأنا حاسس بيك.
جلس الطبيب علي مقعد بجانبه وهو يتابع بإشفاق : عارف الصدمة كانت صعبه، خاصه إنك كنت علي أبواب حلمك ونفسك تفرحهم، لكن ده قدر ربنا.
لم يُعره انتباهاً قط.
فنهض ووقف أمامه وهو يقول بشيءٍ من الغضب : تفتكر هما سعداء وأنت كده؟ قوم يا عمر، قوم وكمل حلمك علي الأقل عشان تسعدهم.
أطلق زفيراً ثم قال بهدوء : عمر دي سنة الحياة، لما بنفقد حد بنحبه أكيد بنحزن لكن الحزن الحاجه الوحيدة اللي بتتولد كبيره وتصغر مع الوقت، وبنعيش مع الذكريات.
– “بنعيش مع الذكريات .. أنا فقدتهم وفقد الذكريات بنفس اللحظة” ! قالها بصوتٍ وامق وجسد خالي التعبير.
ألتفت له الطبيب غير مصدق أنه نطق بعد عدة أيام من محاولات الفشل.
– سَعَدَ لكنه سرعان ما أدرك ألمه فقال : يبقي حقق حلمك ليك ولهم.
– نظر عمر إليه وقال بصوتِ شجي : معنديش حلم، ده حلمهم، كنت هحققه لهم !
هم الطبيب بالرد عليه لكن صوت مساعده دوّى معلنًا عن حالة طارئة.

تقوقع في فراشه محاولاً تذكرهم -تذكر ملامحهم- فحتي الصور لا يملك ! ثم وقع بصره علي أوراقِ وقلم أعلي منضده بأخر الغرفة .. فهم إليها وشرع بالرسم. وظل منكبٍ علي لوحته وكأنهُ صُم عن العالم !
– أنتشله الطبيب من عزلته وهو يقول : مقالوليش إنك بترسم يا فنان. ثم تابع بترقب : أهلك ؟
فأومأ برأسه دون أن يرفع نظره.
– قال الطبيب بمزاح : فين الأصل بقي عشان نحدد مدى فنك.
– رفع نظره إليه وهو يقول بصوته الشجي : مفيش أصل، مفيش غير ذاكرتي.
– صمت الطبيب ثم قال : لكن أنت فنان، اللوحة طبيعية جدًا.
أبتسم بوهن، فقال الطبيب وكأنه وجد كنز : عمر، ما ترسم وتبيع لوحاتك وتعيش منها، وتبقي بتعمل حاجه بتحبها. ثم تابع : أنا ليا صديق ممكن يمول لك معرض !
نظر له عمر محاولاً الاستيعاب.
– فقال الطبيب علي عجله : بكره نروح له، وأنت هتعيش معايا في بيتي لحد ما تقدر تفتح بيت. وغادر دون أن يمنحه التعقيب.
وقد كان .. ذهبا للصديق وأنبهر بفنه.
– قال بانبهار : أتعلمت فين؟ وبترسم من امتي؟
– فصعقهم بإجابته : دي أول مره أمسك قلم !
– أفاقا من انبهارهما وقالا بصوتٍ مشتركٍ مديد : أنت موهوب.
فوقعت الكلمة علي مسمعه كمن سُكب عليه دلوً من الثلج ! لطالما بحث عن موهبته ويأس من حياتها فظن أنها هجرته.

وأخيراً عاد للحياة .. فالقدر دائمًا خيرٌ يلزم الحمد.
تعددت لوحاته وأنبهر الجميع بفنه الراقي الزاهي، وحققت مبيعات عالية حَسنت من وضعه كثيراً. أصبح فنانًا مشهورًا وأفتتح أول معرض له .. فنال معرضه حديث المدينة ودوّي فنه بالبلاد.

صعد درجات المسرح بثبات؛ ليلقي كلمته .. فأمسك بالميكروفون ولم يقل غير : “لكل منا دفين ومدفون.”

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق